سورة الروم - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


يقول الحق جل جلاله: {الله يَبدأُ الخلقَ}؛ ينشئهم، {ثم يُعيده}؛ يحييهم بعد الموت، {ثم إليه تُرْجَعونَ}؛ للجزاء؛ بالثواب والعقاب. والالتفات إلى الخطاب؛ للمبالغة في إثباته. وقرأ أبو عمرو وسهل وروح: بالغيب، على الأصل. {ويوم تقوم الساعة يُبْلِسُ}: ييأس ويتحير {المجرمون}؛ المشركون؛ يُقال: ناظرته فأبلس، أي: أُفْحِمَ وأَيِسَ من الحجة، أو: يسكتون متحيرين، {ولم يكنُ لهم من شركائهم} التي عبدوها من دون الله {شفعاء} يشفعون لهم ويجيرونهم من النار، {وكانوا بشركائهم كافرين}؛ جاحدين لها، متبرئين من عبادتها، حين أيسوا من نفعها. أو: كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتها.
{ويوم تقوم الساعةُ يومئذٍ يتفرقون} أي: المسلمون والكافرون، بدليل قوله: {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضةٍ}، أي: بستان ذي أزهار وأنهار، وهي الجنة. والتنكير؛لإبهام أمرها وتفخيمه، {يُحْبَرون}: يُسرّون، يقال: حبره، إذا سرّه سروراً تهلّل به وجهه، وظهر فيه أثره.
ووجوه المسار كثيرة، فقيل: يُكرمون، وقيل: يُحلّون. وقيل: هو السماع في الجنة. قاله غير واحد. قال أبو الدرداء: كان عليه الصلاة والسلام يذكَّر الناس بنعيم الجنان؛ فقيل: يا رسول الله؛ هل في الجنة من سماع؟ قال: «نعم، إنَّ فِي الجنْة لنَهَراً حَافَتاهُ الأبْكَار مِنْ كُل بَيْضَاءَ خَمْصانة، يَتَغَنيْنَ بأصْواتٍ لَمْ تَسْمَعِ الخلائِقُ بمِثْلها قَطُّ، فَذلك أفْضَلُ نعيم أهل الجنَّة» قال الرواي: فسألت أبا الدرداء: بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح إن شاء الله. والخمصانة: المرهفة الأعلى، الضخمة الأسفل. اهـ. انظر الثعلبي. وذكر غيره أن هذا السماع يكون في نُزْهَةٍ تكون لأهل الجنة على شاطئ هذا النهر، وقد ذكرناها في شرحنا الكبير على الفاتحة.
{وأما الذين كفروا وكذّبوا بآياتنا ولقاءِ الآخرة}؛ بالبعث {فأولئك في العذاب مُحضرون}: مقيمون، لا يغيبون عنه. عائذاً بالله من غضبه.
الإشارة: من اعتمد على غير الله، أو ركن إلى شيء سواه، فهو مجرم عند الخصوص، وذلك الشيء الذي ركن إليه صنم في حقه، يتبرأ منه يوم القيامة، ويُبلس من نفعه، {يوم تقوم الساعة يُبلس المجرمون}: الآية. {ويوم تقوم الساعة يومئذٍ يتفرقون}؛ فريقٌ هم أهل الوصلة، وفريق هم أهل القطعة، فريق في المنة، وفريق في المحنة، فريق في السرور، وفريق في الثبور، فريقٌ في الثواب، وفريق في العقاب، فريق في الفراق، وفريق في التلاق. قال القشيري: وإذا كان الأمر هكذا، فَجِدَّ، أيها المؤمن، في طاعة مولاك، وأَكْثِرْ من ذكره، صباحاً ومساء، وليلاً ونهارا؛ لتنال ذلك الوعد، وَتَنْجَو من الوعيد.


قلت: {فسبحان}: مصدر لمحذوف، أي: سبحوا سبحان. و{حين}: متعلق بذلك المحذوف، وجملة: {وله الحمد}: معترضة بين معطوفات الظروف. و{في السموات}: حال من الحمد، أي: وله، على عباده، الحمد؛ كائناً في السموات... إلخ.
يقول الحق جل جلاله: {فسبحانَ اللهِ} أي: فسبّحوا الله ونزّهوه تنزيهاً يليق به في هذه الأوقات التي تظهر قدرته، وتجدد فيها نعَمه، وهي {حينَ تُمسون}؛ تدخلون في المساء {وحين تُصبحون} تدخلون في الصباح. {وله الحمدُ في السماوات والأرض} أي: وله، على المميّزين كلّهم، من أهل السموات والأرض، أن يحمدوه، {وعشيّاً} أي: وسبحوه عشياً؛ آخر النهار، {وحين تُظْهِرُون}؛ تدخلون في وقت الظهيرة.
قال البيضاوي: وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح؛ لأن آثار العظمة والقدرة فيهما أظهر، تخصيص الحمد بالعشي- الذي هو آخر النهار، من عشى العين؛ إذ نقص نورها- والظهيرة- التي هي وسطه؛ لأن تجدد النعم فيها أكثر. ويجوز أن يكون {عَشِيّاً} معطوف على {حين تُمسون}، وقوله: {وله الحمد..} إلخ- اعتراضاً. وعن ابن عباس: الآيةُ جامعة للصلوات الخمس، {تُمسون}: صلاتا المغرب والعشاء، {تصبحون}: صلاة الفجر، {وعشياً}: صلاة العصر، {وتُظهرون} صلاة الظهر. ولذلك زعم الحسن أنها مَدَنِيَّةٌ؛ لأنه كان يقول: كان الواجب عليه بمكة ركعتين، في أي وقت اتفقت، وإنما فرضت الخمس بالمدينة. والأكثر على أنها فرضت بمكة. اهـ.
ثم ذكر وجه استحقاقه للحمد والتنزيه بقوله: {يُخرج الحيَّ من الميت}، الطائر من البيضة، والإنسان من النطفة، أو: المؤمن من الكافر، والعالم من الجاهل. {ويُخرج الميتَ من الحيّ}، البيضة من الطائر، والنطفة من الإنسان، أو: الكافر من المؤمن، والجاهل من العالم. {ويحيي الأرضَ} بالنبات {بعد موتها} بيبسها، {وكذلك تخرجون}، والمعنى: أن الإبداء والإعادة متساويان في قدرة مَن هو قادر على إخراج الحي من الميت، وعكسه.
رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ {فسبحان الله حين تمسون}.. إلى الثلاث آيات، وآخر سورة الصافات: {سبحان ربك رب العزة..} إلخ.. دُبُرَ كُلّ صلاة، كتب له من الحسنات عدد نجوم السماء، وقطر الأمطار، وورق الأشجار، وتراب الأرض. فإذا مات؛ أجرى له بكل لفظ عشر حسنات في قبره» نقله الثعلبي والنسفي. وعنه- عليه الصلاة والسلام: «مَن قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: {فسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ}... إلى قوله: {وكذلك تخرجون}؛ أدْرَكَ ما فَاتَهُ في يوْمِهِ، ومن قاله حين يُمْسِي؛ أَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي لَيْلَتِهِ» رواه ابو داود.
وقال الضحاك: من قال: {فسبحان الله حين تمسون..} إلخ؛ كان له كعدل مائتي رقبة من ولد إسماعيل. اهـ. زاد كعب: ولم يفته خَيْرٌ كان في يومه، ولا يدركه شر كان فيه.
وإن قالها في السماء؛ فكذلك. وكان إبراهيم الخليل عليه السلام يقرها ست مرات في كل يوم وليلة. اهـ.
الإشارة: أما وجه الأمر بالتنزيه حين المساء والصباح؛ فلأنَّ المجوس كانوا يسجدون للشمس في هذين الوقتين؛ تسليماً وتوديعاً، فأمر الحق تعالى المؤمنين أن ينزهوه عمن يستحق العبادة معه، وأما العشي؛ فلأنه وقت غفلة الناس في جميع حوائجهم، وأما وقت الظهيرة؛ فلأن جهنم تشتعل فيه؛ كما في الحديث، وأمر بحمده والثناء عليه في كل وقت؛ لما غمرهم من النِعَم الظاهرة والباطنة.
قال القشيري: فمن كان صباحُه بالله؛ بُوركَ له في يومه، ومن كان مساؤه بالله؛ بورك له في ليلته، وأنشدوا:
وإنَّ صَبَاحاً نلتقي في مسائه *** صَبَاحٌ على قلب الغريب حبيبُ
شتَّان بين عبد: صباحُه مُفْتَتَحٌ بعبادته، ومساؤه مُخْتَتَمٌ بطاعته، وبين عبدٍ: صباحه مُفتتح بمشاهدته، ورواحه مختتم بعزيز رؤيته. قلت: الأول من عامة الأبرار، والثاني من خاصة العارفين الكبار، وبقي مقام الغافلين، وهو: من كان صباحه مفتتح بهم نفسه، ومساؤه مختتم برؤية حسه، ثم ذكر احتمال الصلوات الخمس في الآية، كما تقدم- ثم قال: وأراد الحق من أوليائه أن يجددوا العبودية في اليوم والليلة خمس مرات، فيقف على بساط المناجاة، ويستدرك ما فاته بين الصلاتين من صوارف الزلات. اهـ.
وقوله تعالى: {يُخرج الحي من الميت} يُخرج الذاكر من الغافل، والغافل من الذاكر، والعارف من الجاهل، والجاهل من العارف، ويُحيي أرض النفوس باليقظة والمعرفة بعد موتها بالغفلة والجهل وكذلك تُخرجون من قبوركم على ما متم عليه من معرفة أو جهل، من يقظة أو غفلة، يموت المرء على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جل جلاله: {ومن آياته} الدالة على قدرته، الشاملة للبعث وغيره: أو: ومن علامات ربوبيته: {أن خلقكم} أي: أباكم {من ترابٍ}؛ لأن أصل الإنشاء منه، {ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} أي: ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً منتشرين في الأرض، آدم وذريته. {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها}؛ لأن حواء خُلقت من ضلع آدم، والنساء بعدها خُلقن من أصلاب الرجال. أو: من شكل أنفسكم وجنسها، لا مِنْ جنس آخر، وذلك لما بين الاثنين- إِذْ كَانَا من جنس واحد- من الألفة والمودة والسكون، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر. ويقال سكن إليه: إذا مال إليه. {وجعل بينكم مودة ورحمة} أي: جعل بينكم التوادد والتراحم بسبب الزواج.
وعن الحسن: المودة كناية عن الجماع، والرحمة هي الولد. وقيل المودة للشابة الجميلة، والرحمة للعجوز، وقيل: المودة والرحمة من الله، والفَرْك من الشيطان- أي: البغض من الجانبين. {إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون}؛ فيعلمون ما في ذلك من الحِكم، وأن قوام الدنيا بوجود التناسل.
الإشارة: أصل النشأة البشرية من الطين، وأصل الروح من نور رب العالمين. فإذا غلبت الطينة على الروح جذبتها إلى عالم الطين، فكان همها الطين، وهوت إلى أسفل سافلين، فلا تجد فكرتها وحديثها، في الغالب، إلا في عالم الحس، ويكون عملها كله عَمَلَ الجوارح، يفنى بفنائها. وإذا غلبت الروح على الطينة؛ وذلك بدخول مقام الفناء، حتى تستولي المعاني على الحسيات. وتنخنس البشرية تحت سلطان أنوار الحقيقة، جذبتها إلى عالم الأنوار والأسرار، فلا تجد فكرتها إلا في أنوار التوحيد وأسرار التفريد، وعملها كله قلبي وسري. بين فكرة واعتبار، وشهود واستبصار، يبقى مع الروح ببقائها، يجري عليها بعد موت البشرية، ويبعث معها، كما تقدم في الحديث: «يموت المرء...» إلخ.
قال القشيري: يقال: الأصل تُربة، ولكن العِبرَة بالتربية لا بالتربة. اهـ. قلت: إذ بالتربية تغلب الروح على البشرية، ثم قال: اصطفى الكعبة، فهي خير من الجنة، مع أن الجنة جواهر ويواقيت، والكعبة حجر ومدر، أي: كذلك المؤمن الكامل، وإن كان أصله من الطين، فهو أفضل من كثير العوالم اللطيفة. ثم قال في قوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من انفسكم أزواجاً} الآية: رَدَّ المِثْلَ إلى المِثْل، وربط الشكلَ بالشكل، وجعل سكونَ البعض إلى البعضِ، وذلك للأشباح والصُّورَ، والأرواح صحِبت الأشباح؛ كرهاً لا طوعاً، وأما الأسرار فمُعْتَقَةٌ، لا تساكن الأطلال، ولا تتدنس بالأغيار. اهـ.
قلت: وكأنه يشير إلى أن المودة التي انعقدت بين الزوجين إنما هي نفسية، لا روحانية، ولا سرية؛ إذ الروح والسر لا يتصور منها ميل إلى غير أسرار الذات العلية؛ إذ محبة الحق، جذبتها عن الميل إلى شيء من السّوى. واختلف الصوفية: هل تُخِلُّ هذه المودة بين الزوجين يمحية الحق أم لا؟ فقال سهل رضي الله عنه: لا تضر الروح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «حُبب إلي َّمن دنياكم ثلاث...» فذكر النساء إذا كان على وجه الشفقة والرحمة، لا على غلبة الشهوة. وعلامة محبة الشفقة: أنه لا يتغير عند فَقْدها، ولا يحزن بفواتها. وهذا هو الصحيح. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8